الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية لأحاديث الهداية **
- ولسنا نخوض هنا في عباب ترجمة أبي حنيفة النعمان، وفي كتب الأئمة ما يغنينا عن ذلك، فدونك كتاب "أبي القاسم بن أبي العوام، الحافظ". وكتاب "أبي عبد اللّه الحسين الصيمرمي". و"كتاب الحارثي، المندمج في كتاب الموفق المكي". و"جزء ابن الدخيل" الذي نقل ابن عبد البر غالب ما فيه في "الانتقاء"، وكان ابن الدخيل راوية العقيلي، فألف جزء في فضائل أبي حنيفة، ردًا على العقيلي، حيث أطال لسانه في فقيه الملة، وأصحابه البررة، شأن الجهلة الأغرار، وتبرؤً مما خطته يمين العقيلي، مما يجافي الحقيقة، فسمعه حكم بن المنذر البلوطي الأندلسي من ابن الدخيل بمكة، وسمعه منه ابن عبد البر، فساق غالب ما فيه من المناقب في "ترجمة أبي حنيفة" من الانتقاء، وما يذكره ابن عبد البر عن البخاري كان من تمام النَّصفة، أن ينظر في سنده، وكذا ما يرويه إبراهيم بن بشار عن ابن عيينة، وأما ابن الجارود، فقد ثبت رد شهادته عند قاضي المسلمين، فلو أشار إلى ذلك كله لأحسن صنعًا. والحاصل أنه لم يتكلم فيه أحد بحجة، كما شرحنا ذلك أوسع شرح، فيما رددنا به على الخطيب في هذا الصدد، وإنما نتكلم هنا عن طرف من أحواله، مما ينبئ عن طريقته في التفقيه. فأقول: هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت النعمان بن المرزبان، الفارسي الأصل، لم يقع عليه رق أصلًا، وإسماعيل بن حماد مصدق في ذلك، وقد قال الصلاح بن شاكر الكتبي في "عيون التواريخ": قال محمد بن عبد اللّه الأنصاري: ما وَلِيَ القضاء من أيام عمر بن الخطاب إلى اليوم "يعني بالبصرة" مثل إسماعيل بن حماد، فقيل له: ولا الحسن البصري؟ قال: واللّه، ولا الحسن البصري، وكان عالمًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا. اهـ. أمثله لا يصدق في نسبه؟! وقد حدث الطحاوي في "مشكل الآثار": ص 54 - 4 عن بكار بن قتيبة عن عبد اللّه بن يزيد المقريء: "أتيت أبا حنيفة، فقال لي : من الرجل؟. فقلت. رجل مَنَّ اللّه عليه بالإسلام، فقال لي: لا تقل هكذا، ولكن وال بعض هذه الأحياء، ثم انتم إليهم، فإني كنت أنا كذلك" فعلم أن ولاءه كان ولاء الموالاة، لا ولاء العتق، ولا ولاء الإسلام، قال ابن أبي العوام: حدثني الطحاوي، كتب إليّ ابن أبي ثور، قال: أخبرني، نوح أبو سفيان، قال لي المغيرة بن حمزة: كان أصحاب أبي حنيفة الذين دَوَّنوا معه الكتب أربعين رجلًا، كبراء الكبراء، اهـ. وقال ابن أبي العوام أيضًا: حدثني الطحاوي، كتب إلي محمد بن عبد اللّه بن أبي ثور "الرعيني" حدثني سليمان بن عمران حدثني أسد بن الفرات، قال: كان أصحاب أبي حنيفة الذين دَوَّنوا الكتب أربعين رجلًا، فكان في العشرة المتقدمين : أبو يوسف، وزفر بن الهذيل، وداود الطائي، وأسد بن عمرو، ويوسف بن خالد السمتي" أحد مشايخ الشافعي": ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو الذي كان يكتبها لهم ثلاثين سنة، اهـ. وبهذا السند إلى أسد بن الفرات، قال: قال لي أسد بن عمرو: كانوا يختلفون عند أبي حنيفة في جواب المسألة، فيأتي هذا بجواب، وهذا بجواب، ثم يرفعونها إليه، ويسألونه عنها، فيأتي الجواب من كثب - أي من قرب - ، وكانوا يقيمون في المسألة ثلاثة أيام، ثم يكتبونها في الديوان، اهـ. قال الصيمرمي: حدثنا أبو العباس أحمد الهاشمي، ثنا أحمد بن محمد المكي ثنا علي بن محمد النخعي حدثنا إبراهيم بن محمد البلخي حدثنا محمد بن سعيد الخوارزمي إسحاق بن إبراهيم، قال : كان أصحاب أبي حنيفة يخوضون معه في المسألة، فإذا لم يحضر عافية - ابن يزيد القاضي - ، قال أبو حنيفة: لا ترفعوا المسألة حتى يحضر عافية، فإذا حضر عافية ووافقهم، قال أبو حنيفة: أثبتوها، وإن لم يوافقهم، قال أبو حنيفة، لأخرى سواها، اهـ. وقال يحيى بن معين في "التاريخ"، و"العلل": رواية الدوري عنه في - ظاهرية دمشق - : قال أبو نعيم "الفضل بن دكين" سمعت زفر يقول: كنا نختلف إلى أبي حنيفة، ومعنا أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، فكنا نكتب عنه، قال زفر: فقال يومًا أبو حنيفة، لأبي يوسف: "ويحك يا يعقوب، لا تكتب كل ما تسمع مني، فإني قد أرى الرأي اليوم، وأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا، وأتركه في غده"، اهـ. انظر كيف كان ينهى أصحابه عن التدوين المسائل، إذا تعجل أحدهم بكتابتها قبل تمحيصها كما يحب، فإذا أحطت خبرًا، بما سبق علمت صدق ما يقوله الموفق المكي: ص 133 - 2، حيث قال، بعد أن ذكر كبار أصحاب أبي حنيفة : وضع أبو حنيفة مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهادًا منه في الدين، ومبالغة في النصيحة للّه، ورسوله، والمؤمنين. فكان يلقي المسائل مسألة مسألة، ويسمع ما عندهم، ويقول ما عنده، ويناظرهم شهرًا، أو أكثر، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها، وهذا يكون أولى وأصوب، وإلى الحق أقرب، والقلوب إليه أسكن، وبه أطيب، من مذهب من انفرد، فوضع مذهبه بنفسه، ويرجع فيه إلى رأيه، اهـ. ومن هذا يظهر أن أبا حنيفة لم يكن يحمل أصحابه على قبول ما يلقيه عليهم، بل كان يحملهم على إبداء ما عندهم، إلى أن يتضح عندهم الأمر، كوضح الصبح، فيقبلون ما وضح دليله، وينبذون ما سقطت حجته، وكان يقول ما معناه: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلنا، وهذا هو سر ظهور مذهبه في الخافقين، ظهورًا لم يعهد له مثيل، وهو السبب الأصلي لبراعة المتفقهين عليه، وكثرتهم، إذ طريقته تلك هي الطريقة المثلى، في التدريب على الفقه، وتنشئة الناشئين، ولذلك يقول ابن حجر المكي في "خيرات الحسان" ص 26: "قال بعض الأئمة: لم يظهر لأحد من أئمة الإسلام المشهورين، مثل ما ظهر لأبي حنيفة، من الأصحاب. والتلاميذ، ولم ينتفع العلماء، وجميع الناس، بمثل ما انتفعوا به، وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل، والقضاء، والأحكام"، اهـ. وقال محمد بن إسحاق النديم في "الفهرست": و"العلم برًا وبحرًا، وشرقًا وغربًا، بعدًا وقربًا تدوينه له، رضي اللّه عنه. وقال المجد بن الأثير في "جامع الأصول" ما معناه: لو لم يكن للّه في ذلك سر خفي، لما كان شطر هذه الأمة من أقدم عهد إلى يومنا هذا، يعبدون اللّه سبحانه على مذهب هذا الإمام الجليل، وليس أحد من هؤلاء الثلاثة على مذهب هذا الإمام، حتى يرمى بالتحزب له، رضي اللّه عنه. والحاصل : أن من خصائص هذا المذهب كون تدوين المسائل فيه على الشورى، والمناظرات المديدة، وتلقي الأحكام فيه من جماعة، عن جماعة، إلى أوَّل نبع غزير فياض في الفقه، في عهد جمهرة فقهاء الصحابة، واستمرار سعي الجماعة في تبيين أحكام النوازل، جماعة بعد جماعة، إلى ما شاء اللّه سبحانه كذلك، بحيث يتمشى المذهب مع حاجات العصور، ومقتضيات الرقي الحضاري في البشر. ولذا ترى ابن خلدون يقول عن مذهب مالك ما لفظه: وأيضًا فالبداوة كانت غالبة على المغرب، والأندلس، ولم يكونوا يعاونون الحضارة التي لأهل العراق [انظر هذا ليس بقول حنفي، ولا كوفي، بل قول مؤرخ جليل، مغربي محتدًا، مالكي المذهب نشأة قاضي مصر] فكانوا إلى أهل الحجاز أميل، لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضًا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، اهـ. "مقدمة - علم الفقه"، فإذا كان مذهب مالك الذي عاش الأندلس تحت حكمه طوال قرون، هكذا في نظر ابن خلدون، فما ظنك بما سواه من المذاهب التي لم تعاشر الحضارة في أحكامها مدة طويلة؟ وأما قراءة أبي حنيفة، فهي قراءة عاصم المنتشرة في الآفاق، وللقرآن المنزلة العليا عنده في الاحتجاج، حيث يعد عموماته قطعية، وقد علم الخاص والعام ختمه القرآن في ركعة، على قلة من فعل هذا من السلف، وما ينسب إليه من القراءات الشاذة، في بعض - كتب التفسير - ، غير ثابت عنه أصلًا، فلا حاجة لتكلف توجيهها، كما فعل الزمخشري، والنسفي في "تفسيرهما"، بل تلك القراءات موضوعة عليه، كما ذكره الخطيب في "تاريخه"، والذهبي في "طبقات القراء"، وابن الجزري في "الطبقات" أيضًا، وواضعها الخزاعي، قال الذهبي في "الميزان - في ترجمة أبي الفضل، محمد بن جعفر الخزاعي، المتوفى سنة 407": ألف كتابًا في قراءة أبي حنيفة، فوضع الدارقطني خطه، بأن هذا موضوع، لا أصل له، وقال غيره: لم يكن ثقة، اهـ. وأما كثرة حديثه فتظهر من حججه المسرودة في أبواب الفقه، والمدونة في تلك المسانيد السبعة عشر، لكبار الأئمة من أصحابه، وسائر الحفاظ، وكان مع الخطيب عندما حل دمشق، مسند أبي حنيفة، للدارقطني، ومسند أبي حنيفة، لابن شاهين، وهما زائدان على السبعة عشر المذكورة، وقال الموفق المكي ص 96 - 1: قال الحسن بن زياد : كان أبو حنيفة يروي أربعة آلاف حديث : ألفين لحماد. وألفين لسائر المشيخة، اهـ. وأقل ما يقال في مسائله: إنها تبلغ ثلاثة وثمانين ألفًا، وكانت مشايخه بكثرة بالغة. وأما قوة أبي حنيفة في العربية، فما يدل عليها نشأته في مهد العلوم العربية، وتفريعاته الدقيقة على القواعد العربية، حتى ألف أبو علي الفارسي، والسيرافي، وابن جني كتبًا في شرح آرائه الدقيقة في الأيمان في "الجامع الكبير" إقرارًا منهم بتغلغل صاحبها في أسرار العربية وفي هذا القدر كفاية.
|